الصفحة الرئيسية  ثقافة

ثقافة قراءة قي المجموعة القصصيّة الموسومة بـ"في بيجامتها" للكاتب التونسي "نبيل درغوث"... بقلم منصف النّهدي

نشر في  05 أفريل 2021  (20:14)

بقلم منصف النّهدي*

 عرفت "نبيل درغوث" الإنسان فهو شخص بسام حيي قليل الكلام موصول الصمت لكن لمّا قرأت مجموعته القصصيّة  "في بيجامتها" لمست ضراما قانيا يقذف حمم هواجسه على الورق باحترافية كبيرة دلّت على دربة بمقوّمات القصّ إذ نرى شخصيّات أقصوصاته تنبض بالحياة وتخترق عوالمنا لتوغل في مجاهل النّفس البشريّة بكل تناقضاتها وقد وجدتني مدفوعا إلى التفاعل مع عالم "نبيل درغوث" القصصي  فاخترت لقراءتي مستويات عدّة :

• اللّغة

• الشكل الفنّي للأقصوصة في مجموعته 

• القضايا

1 ـ اللّغة :

اشتغل الكاتب في لغة الخطاب اشتغالا مخصوصا إذ مزج مزجا فريدا بين مستويات شتّى أولها في أقصوصة stand upcomedy الخطاب الشّعري من  خلال توظيفه لأبيات "أبي الطّيّب المتنبّي" حين يهتف البطل المغمور : أنا الّذي نظر الأعمى إلى أدبي وأسمعت كلماتي من به صمم

وأمّا المستوى الثّاني فهو اللّغة النّثريّة الفصيحة من خلال الجمل السّرديّة القصيرة الّتي تأخذك بآليّة التّشويق لمعرفة الأحداث المتلاحقة والمتشابكة في لهاث لا حدّ له من أجل الوصول إلى نهاية الحدث ومعرفة مصير الشّخصيّة وقد تجسّد ذلك بصفة جليّة في أقصوصة "السّاعة الثّامنة وعشرون دقيقة" حين تطالعك الجمل دون أدوات الرّبط فنجد الكاتب يكثّف الجمل الفعليّة الدالة على الحركة في سرعة انقضاء الحدث كالبرق الخلّب يخطف الأبصار فيعييك التطلّع على مصير الشّخوص ومآل الأحداث تأمل في قوله:"أفزعني رنين الهاتف انتفضت من مكاني ...ألقيت الكتاب ... رفعت السّمّاعة ..ألو .. وصلني صوت متحشرج ... انقطع الخطّ .."

تطالعك اللّهجة العامّيّة أو العربيّة التّونسيّة إن جاز لنا القول في مثل خطاب صديقه وهما في الملجإ في أقصوصة "ابن الدّولة العميقة"  "هش ... يا بغل" وفي مستوى آخر لم يتوان المؤلّف عن استعمال اللّغة الأجنبيّة سواء أكان ذلك في عناوين بعض الأقصوصات :

Garibaldi / Stand up comedy / TANGO

أو في بعض الأغاني الغربيّة الّتي تستمع إليها الشّخصيّات كأغنية Avec le temps

في أقصوصة "في بيجامتها" بل إنّنا وجدناه يستعمل معجما عسكريّا استمدّه من الحقل الدّلالي الأمني حين يقول الرّائد مهران لـ"ابن الدّولة " : انهي ..انهي " بلهجة عامّية آمرة صارمة .

هذه المستويات اللّغويّة طوّعها الكاتب لبناء جهاز لغويّ إبداعيّ رسم لنا من خلالها ملامح الزّمان والمكان والشّخصيّات فكان المزيج اللّغوي إثراء متبادلا بين مستويات اللّغة.

2 ـ المقوّمات الفنّيّة :

 فأقصوصة Tango مثلا  وردت في صفحة واحدة نلاحظ تفاوتا في حجم المجموعة القصصيّة

في حين امتدّت أقصوصة "ابن الدّولة العميقة" إلى ثلاث عشرة صفحة وإن كان لي حول هذه الأقصوصة موقف فهي في حدّ ذاتها مجموعة قصصيّة داخل المجموعة أو هي نصّ داخل النّصّ أو هي حكاية مضمّنة ضمن حكاية إطار وكم وددت لو كان الكاتب اشتغل عليها وطوّرها لتكون عملا روائيّا مطوّلا فالموضوع طريف مواكب لعصره وعالم الجماعات الأصوليّة مشوّق أرضه بكر يمكن أن تدرّ الخصب والثّراء.

أمّا من جهة  البنية الفنّيّة فقد بدا الكاتب واعيا بالمقوّمات الفنّيّة والأسلوبيّة للأقصوصة متّبعا روّادها حينا ومجدّدا أحايين أخرى .

لقد التزم نبيل درغوث بوحدة الحدث ونسج خيوطه حول شخصيّة رئيسيّة سلّط عليها الضّوء وكان الوصف دليلا عليها والحوار كاشفا لأغوارها وترجمانا لأحلامها ومآسيها وأزماتها ويتجلّى ذلك بوضوح تامّ في مشهد لقاء البطل مع تلك المرأة البدينة اللّاحمة البيضاء البضّة في أقصوصة البيضة ولم يكتف القصّاص بذلك فقد جعل وحدة المكان مقوّما رئيسيّا في مجموعته فلاحظنا ملازمة الشّخصيّة الرّئيسيّة لمكان واحد لا تكاد تغادره إلّا في أقصوصة "ابن الدّولة العميقة" فلها وضع مخصوص كما أسلفت فالشّخصيّة لا تغادر الحانة في أقصوصة "الغريب" إلّا مع لحظة التّنوير أو الكشف وها هي لا تغادر المسرح في أقصوصة Stand up comedy  إلّا لتغادر الرّكح نحو غرفة تبديل الملابس.   

وإذا ولّينا وجهتنا شطر البنية الكلّيّة للأثر وجدنا المؤلّف قد سار على نهج سابقيه في بناء الأقصوصة حين ينبلج السّرد ليكشف لنا ملامح الشّخصيّة في بنيتها النّفسيّة والجسمانيّة ثمّ تدرك الأحداث العقدة بعد مراحل تأزّم واضطراب تبنى تدريجيّا لتنكشف الحقيقة أو المفاجأة في نقطة نهاية يسمّيها النّقّاد بلحظة التّنوير فتفشى أسرار الأقصوصة ويصل التّشويق مداه وقد جسّد الكاتب ذلك في أقصوصة "رغوة" حين يصدمنا بأنّ البطل من تسبب في موت زوجته وأطفاله لمّا انشغل عنهم بمشاهدة مباراة في كرة القدم وتركهم يخرجون لوحدهم في السيّارة فهوسه جرّ عليه الوبال غير أنّ الطّريف في المجموعة حسبما بدا لي أنّ القصّاص لم يكن منهج الإتباع في الشّكل الفنّي للأقصوصة هو ديدنه فقد رأيناه يبتدع البدعة الحلال مجدّدا في البنية وخاصّة في لحظة الكشف أو التّنوير فها هو يصدمنا في أقصوصة "البيضة"  بنهاية سرياليّة تجريديّة تخرج عن المألوف ففي حين كنّا ننتظر مولودا من عالم البشر بعد تلك اللّيلة الصّاخبة مع تلك المرأة  البضّة ذات الجسد الأبيض بياض الثّلج فإذا بنا نجدها تتمخّض ذلك السّقط الّذي ولد ميّتا وإذا بها تنجب بيضة فكانت النّهاية "هيتشكوكيّة" أنهاها الكاتب بقهقهة مرّة ودراما سوداء من قبيل المضحكات المبكيات.

وأنهي قراءتي الفنّيّة للمجموعة بالنّظر في الضّمائر الّتي  وظّفها الكاتب فقد لفت انتباهي أنه راوح بين ضميرين : ضمير المتكلّم المفرد في أقصوصتين هما "الغريب" استمع إليه عندما يقول :"منذ يومي الأوّل وجدت هذا السّيّد يجلس وحيدا في تلك الزّاوية" وفي "بيجامتها" يردف قائلا : "كلّما أتذكّر أشعر بالمذاق المرّ ذاته" أمّا في بقيّة الأقاصيص فقد غلب ضمير الغائب المفرد "هو" ومثال ذلك ما أورده في أقصوصة ّ "رغوة" لمّا يصرّح قائلا : "نهض عند الواحدة ظهرا" وبدا واضحا إذن  استعمال الكاتب ضمير الغيبة الّذي هيمن على الخطاب باعتباره الأداة السّحريّة للقصّ فكان ملاذ الكاتب لتصوير شخصيّات قصصيّة متخيّلة يهمه منها ما رام إبلاغه للقارئ  من هواجس ومواقف وأفكار ورؤى ولم يطنب القصّاص في استعمال ضمير "أنا" لأنّه لم يكن منشغلا بنقل تجاربه الذّاتيّة على غرار كتّاب السّيرة الذّاتيّة  وإنّما كان همّه رسم ملامح شخصيّات تخييليّة تجسّد رؤاه ومخياله الفنّيّ .

3 ـ القضايا :

الأقصوصة جنس يتيح للقصّاص التّرحال في ثنايا الأفكار والمعاني والدّلالات والكاتب "نبيل درغوث" كان وفيّا لهذا التّنوّع فتعدّدت القضايا الّتي طرحها  في مجموعته إلّا أنّ اللّافت للنّظر احتفاؤه بالخمرة في أقاصيص عديدة كالغريب وفي بيجامتها و Tango

إذ كان نواسيّا ذاكرا أماكن شربها في الحانات والبارات معدّدا أنواعهما من بيرا ووسكي وغيرها ولعلّ هذا الاحتفاء مردّه تصويره لشخصيّات هامشيّة تعيش على شفا حفرة من واقع متردّ تنغمس في اللّذّة تلوذ بها من مرارة الواقع وقسوة المجتمع كالغريب في الأقصوصة المذكورة سابقا أو الفنّان المغمور الّذي يبحث له عن موطإ قدم في دنيا المسرح لكن المجتمع يصدّه إنّها شخصيّات توغل في التّهتّك والمجون والتّجاهر بالإثم إلى حدّ "العفن" كما يقول النّاقد "محمّد علي بن غنيّة" في تقديمه للمجموعة.

بيد أنّ الكاتب قد رسم لنا أسمى المشاعر الإنسانيّة وأكثرها تراجيديّة في أقصوصة "رغوة" حين يفقد الزّوج أسرته بسبب إهماله ورعونته فيجترّ آلام الفراق وحرقة الفقد في مشهد يدمي القلب حزنا وكمدا فلقد صوّرت المجموعة قضايا لصيقة بواقعنا التّونسيّ بعد أمّ الثّورات العربيّة وما عانته البلاد من ويلات الإرهاب والجماعات الأصوليّة .

بينما نجد موقف الكاتب من اليسار التونسي يكاد يكون مبتورا فلئن كان يبدو ميّالا لأطروحاته ويتبنّاها فإنّه في المقابل يرفض ممارساته  لذا كانت الإشارة إليه شحيحة لا تعدو أن تكون تلميحا لا تصريحا .

وفي الختام يمكن القول إنّ مجموعة "في بيجامتها" للكاتب "نبيل درغوث" هي "لمّ شمل" لأقاصيص نشرت منجّمة في مجلّات عربيّة وتونسيّة فكانت بحقّ خطوة أخرى يخطوها الكاتب في إغناء تجربته مع الكتابة وتكريسا لموهبة أصيلة تنشد البروز.                 

* ناقد تونسي